الأخبار
من حقوق لطب.. كيف تغير تاريخ كليات القمّة وهل يتكرر الأمر؟
في مارس الماضي خاطب الدكتور خالد عبد الغفار وزير التعليم العالي، أولياء أمور طلاب الثانوية العامة ونصحهم “لا تفكّروا في كليات الطب والهندسة والصيدلة، فهي لن تكون كليات القمة مع التطور ضمن منظومة التعليم الجديدة”. المعنى نفسه أشار إليه الدكتور طارق شوقي وزير التعليم، في حديث تليفزيوني مؤخراً، عندما قال إن “كليات القمة والقاع تصنيفات ليس لها علاقة بالتعليم، ويجب أن نراجع أنفسنا في رؤيتنا تجاه التعليم”، ونصح 621 ألف طالب ثانوي بأن يركّزوا على الكليات التي يحتاجها سوق العمل والتي تركز على التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، والمجالات الجديدة التي يطلبها سوق العمل.
مع نهاية كل فصل دراسي وظهور نتيجة الثانوية العامة، يبدأ الحديث والتكهنات حول “كليات القمّة”، التي تتجه إليها أنظار الطلبة وأولياء الأمور باعتبارها كليات تحظى بوضع اجتماعي أفضل من غيرها، كما أن خريجيها سيكون لهم حظوة ونصيب أفضل في سوق العمل، وهذا ما دفع عبد الله خلف، الحاصل على مجموع 97.5 علمي علوم، أن يضع نصب عينيه الالتحاق بإحدى كليات الطب، باعتبارها “كليات قمة”.
لا يشغل “عبد الله” باله كثيراً بالمصطلح والتصنيفات، هو فقط أدرك حين التحق بالمرحلة الثانوية من خلال ما دار من حديث داخل أسرته بأن عليه أن يلتحق بإحدى كليات الطب أو الهندسة، ولا شيء غير ذلك “كان لازم أحدد هكون علمي علوم أو علمي رياضة، اخترت علوم لأن أكتر من حد قالي إن كليات الطب وظائفها كتير ومتاحة بعد التخرج برواتب مناسبة”.
الدكتور عبد اللطيف محمود أستاذ التخطيط بكلية التربية جامعة حلوان، يرى أنه من الخطأ تصنيف الكليات على أساس القمة والقاع “كليات القمة تسمية شائعة وخاطئة والعلم ما يعرفهاش”، ويضيف أن هناك عوامل عديدة تتدخل في التركيز على كليات بعينها باعتبارها “كليات قمة”، هي الثقافة المجتمعية السائدة والعائد المادي والمستقبل المهني، فمثلاً الآن يتجه أفراد المجتمع نحو نوع معين من المهن مثل الطب التي لها رواج أكثر باعتبار أن سوق العمل بها مفتوح، وفرصها أكثر من غيرها، بحكم الطلب عليها، كما أن صاحبها يبحث عن المكانة الاجتماعية المرموقة التي توفرها هذه الكليات “باعتبارها الأقدر على المكسب وما صاحب ذلك من مكانة مرتفعة في المجتمع باعتباراته الحالية”.
الطلب على مهنة معينة يختلف بمرور السنوات ويتوقف على ما يمكن تسميته “المزاج الشعبي”، ففي النصف الأول من القرن العشرين كانت كلية الحقوق هي “كلية القمة”، يتخرج منها الوزراء والساسة وتحظى بمكانة مرموقة بين أفراد المجتمع، وفي كتابه “ازدهار وانهيار النُخبة القانونية المصرية”، الصادر عن دار الشروق، يذكر الدكتور عمرو الشلقاني، الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، أن دراسة القانون كانت هي الرغبة العارمة لدى 78% من طلبة الثانوية العامة عام 1904، مما اضطر إدارة مدرسة الحقوق وقتئذ ولأول مرة إلى رفض عدد لا بأس به من الطلبات المقدمة للالتحاق بها.. كانت مدرسة الحقوق إذن من كليات القمة، أو قل كانت هي مدرسة تكوين النخبة المصرية الحديثة في الف
ترة من (1886:1952)، فارتفع عدد من تخرجوا منها من 14 طالبا عقب تأسيس مدرسة الحقوق الخديوية، سنة 1886 إلى 89 خريجا سنة 1910.
ترة من (1886:1952)، فارتفع عدد من تخرجوا منها من 14 طالبا عقب تأسيس مدرسة الحقوق الخديوية، سنة 1886 إلى 89 خريجا سنة 1910.
ويمضي “الشلقاني”: كان أحد الأسباب الرئيسية في ذلك يرجع إلى تعيين طلاب المدرسة فور تخرجهم في وظائف الحكومة المصرية المختلفة، من نيابة وقضاء، إلى موظفين ومستخدمين وكتبة في المصالح والوزارات، وذلك لما تمتع به العمل في الحكومة حينئذ من كرامة بالمنزل واعتدال في الراتب، حتى وصل الأمر بالحكومة إلى تعيين قرابة 50% من خريجي دفعة الحقوق سنة 1908، وبدأت في تخفيض عدد تعييناتها من الحقوق إلى أن وصل إلى 10% فقط من خريجي دفعة 1934.
ولم يغفل “الشلقاني” أن يشير في كتابه بأسى إلى ما آلت إليه كليات الحقوق اليوم، من “تدنٍّ مفجع في شروط التحاق الطلاب بكلياتها، وهو تدنٍ كان مصحوبا خلال العقود السابقة بتوسع غير معقول ولا مسئول في عدد الطلاب المقبولين لدراسة القانون، حتى نجد اليوم عدد المقيدين في كلية الحقوق بجامعة القاهرة وقد وصل مشارف الأربعين ألف طالب.. وصارت كلية الحقوق مأوى كل من لم يُقبل في كليات القمة”.
ويعلق أستاذ التخطيط: في الستينيات كان الطلب كبيرا على الالتحاق بكليات الهندسة والزراعة، “كانت هي دي كليات القمة لأن الدولة كان عندها خطط تنموية وكان فيه مشروعات والمهندس كان بيطلع يشتغل علطول”. أما ما حدث في نهاية الثمانينيات بعد أن صارت الدولة لا تتكفل بتعيين خريجي الجامعات كما كان يحدث سلفاً “أي خريج كان يطلع من أي كلية كان بيتعين، وكان ليه مرتب محدد، لكن المسألة تغيرت مع بداية الخصخصة وسياسة إعادة الهيكلة الاقتصادية وخطة البنك الدولي في بداية التسعينيات”، وبالتالي باتت هناك مهن ووظائف معينة تجتذب الطلاب لأن “فيها تعطش وحاجة لسوق العمل أكثر من غيرها فبقت كلية الطب هي أكثر المجالات التي تحوز على رضا الناس وأحلامهم وبقت كلية القمة لأن خريجها هيشتغل في أي مستشفى أو مستوصف وكمان بره مصر عنده فرص متاحة”، بحسب ما يوضّح أستاذ التخطيط بجامعة حلوان.
يأمل “عبد اللطيف” أن تتغيّر نظرة المجتمع تجاه التعليم، وألا يُنظر باحتقار تجاه كليات ووظائف معينة كونها لا تحمل “بريقاً أو وجاهة اجتماعية”، فالنظرة تختلف بتغير الواقع و”هناك نسبة بطالة بين الأطباء والمهندسين بالرغم من أنه ما زالت كليات الطب والهندسة هي كليات قمة، وهناك مهن أخرى يعمل بها خريجو الكليات العادية وتحقق ربحا كبيراً”، مشيراً إلى أن التميز الحقيقي هو تميز الطالب أثناء دراسته بأي كلية، ثم تميزه بعد التخرج في أي وظيفة يشغلها، أياً كانت “كل ما كان الطالب بيحب التخصص أو المهنة اللي هيشتغلها كل ما بيقدر يبدع فيها ويتميز فيها بغض النظر اسمها ايه، وأتمنى أن يكون هناك اهتمام بكليات الزراعة والطب البيطري لأنهم مرتبكين بأمننا الغذائي، وكليات العلوم أيضاً أي بلد عايز يتقدم لازم يهتم بيها، لكن للأسف اتجاهات المجتمع وثقافته هي اللي بتفرض قمة وقاع”.